(( الفصل الرابع ))
الليل ساج.. والهدوء يرمي بثقله على كل شئ، لا يقطعه إلا حفيف أوراق الشجر اليابسة،
تحركها نسائم الخريف التي بدأت تتسلل إلى غرفة عصام، وقد فتح نافذتها، ليطرد رائحة المواد
الكيماوية التي تراكمت في جوها، والتي كان يستعملها في تلوين بعض المحضرات الطبية حتى
يتمكن من تمييز معالمها التشريحية الدقيقة تحت المجهر.
وجذبته رائحة الخريف، فتقدم من النافذة وراح يتأمل منظر الحديقة الكئيب، وقد تعرت أشجارها إلا
شجرة من الورد ظلّت محتفظة بخضرتها الزاهية تتيه ببضع براعم جميلة قد انتصبت في خيلاء
تتحدى البرد والريح، وتعطر الجو بأريجها الطيب...
وأغراه قربها بقطف أحد براعمها، فتطاول بجسمه، ومدّه إلى أقصى ما يستطيع، فالتقطت أنامله
ساق البرعم، فعالجه محاولا قطفه، فانفصل عن أمه بصعوبة، بعد أن أدمت إحدى أشواكه إبهامه الأيمن.
ارتد عصام إلى الخلف، وراح يستنشق راحة البرعم الزكية.. لكم يفتنه منظر الورد..
إنه يبعث في نفسه سعادة غامرة ويحرك في صدره أشواقاً لا يدري كنهها.. أحياناً يحس
وكأن الوجود قد طوي في يمينه، لكن هذه اللحظات الجميلة سرعان ما تتسرب من نفسه،
لتلح عليه همومه الكبرى.
وندت عن الجرح ومضة ألم خفيفة، فنظر إلى قطرة الدم التي تجمدت على فوهته، وقد مرّ بخاطره
شريط سريع تخيل فيه كل التفاعلات الحيوية التي حدثت داخل هذه القطرة الصغيرة من الدم حتى
تخثرت لتشكل سدادة دموية تمنع استمرار النزيف.
- ((سبحان الله))...
قالها عصام وهو يتجه إلى صيدليته ليعالج جرحه الصغير، ثم مضى إلى الغرفة المجاورة فصب
كأساً من الماء وغرس فيه ساق البرعم، ووضعه على منضدته، ثم استرخى على كرسيه وراح
يتأمل برعم الورد الذي تألق مزهوا بين أكداس من الكتب والأوراق.